دبّاباتٌ تتعرّض لنيران من بعيد وتسقط الواحدة تلو الأُخرى في معركة تدور رحاها في منطقة لا سمة لها، لا أثر فيها لشجرة ولا لبيت ولا لجبل. كان الصوت يقتصر على صوت النيران والتفجيرات. قلنا في قرارة أنفسنا إنّنا في العادة نسمع تعليقاً على هكذا أحداث مِن قِبَل مَن يُصوّر المشهد… أُتابع منتشياً للحظات الفيديو الذي أرسله صديقي حتى يظهر طائر في السماء ثمّ يختفي ليعود مجدَّداً في نفس الحركة، فيقطع الشكَّ باليقين: إنها لعبة! فيديو قصير آخر كان من أخرجه أكثرَ فطنةً قليلاً من سابقه، إذ وضع خلفية صوتية لحركة يد مقاتلٍ تتكرّر بشكل لا “يمرّ” على طفل صغير. فنتساءل عن جدوى صنع وتداوُل هذه الفيديوهات، هل هي جزءٌ من الحرب النفسية مثلاً أم هي إستراتيجية لرفع للمعنويات وشحذ للهمم، أم ماذا؟
وفي الحقيقة، لا يختلف المشهد كثيراً، فيما يخصّ الرسومات والكاريكاتيرات، فأيضاً حتى قبل عدّة سنوات كانت تصل إلينا مختاراتٌ منها عبر الصحف والمجلّات ومواقعهما، لرسّامين محترفين، نجد فيها الحدّ الأدنى من المستوى الفنّي والفكري. أمّا الآن، فنرى يومياً عشرات الرسومات، تضيع بين أكوام رثّها الأعمالُ الجيّدة.
من هذه الأعمال التي عرفناها مؤخَّراً، تلك التي تعتمد على برامج الذكاء الاصطناعي، وما يهمُّنا هنا في مقالتنا هذه هي الأعمال التي تتناول في موضوعها مأساة أهلنا في غزّة.
لسنا مضطرّين لاختراع الصور والحقيقةُ ناصعة وواضحة
في ذاكرتي علقت بضع صور، كلُّ واحدة لا تقلّ غرابةً عن أُختها. منها صورةٌ تُمثّل رجُلاً يجلس مع أولاده الثلاثة في بيتهم المدمَّر، وتعلو الابتسامة، بل الضحكة شفاههم، وكأنَّ كلَّ ما يحدث من حولهم هو عدوانٌ افتراضي ستنتهي آثاره بكبسة زر، أو كأنّهم في ديكور مسرحية بعد انتهاء العرض بنجاح.
ومن هذه الصور ما هو من أنواع الفانتازيا، كواحدة لأطفال يعتمرون الكوفية (ويُقصد بهم هنا بالطبع شهداء العدوان)، يطيرون في السماء بأجنحة ملائكة فوق أبنية المدينة المدمَّرة التي يتصاعد من بينها الدخان الأسود، وكأنّهم نحلٌ في فيلم رسوم متحرّكة… ويحار المرء حيال هذه الأعمال ماذا يفعل، أيضحك أم يبكي؟
لا شكّ أنّ كلّ ذلك هو جزءٌ من مَشهد تهافُت مواقع التواصل، ونتيجةٌ طبيعية لإمكانية استعمال برامج الكومبيوتر والتطبيقات العديدة في هواتفنا الذكية لإخراج أعمالٍ كان إخراجُها في السابق حكراً على الفنّانين وأصحاب الاختصاص. ونعود فنطرح سؤالنا السابق: ما الهدف من صنع هذه الأعمال؟ إن كانت الإجابة هي التعبير عن الذات، فلا بأس… لكلٍّ منّا هذا الحقّ، كذلك حقّ اختيار الأداة أو وسيلة هذا التعبير. أمّا إذا قُلنا إنّ الهدف منها هو تصوير معاناة شعبنا هناك في فلسطين أو نقل صورة تُحرّك المشاعر الإنسانية في هذا العالَم متبلّد الأحاسيس، فلا نعتقد أنّ الرسالة قد وصلت. فهذه الأعمال “الفنّية” التي تستخدم الذكاء الاصطناعي، هي أعمالٌ مفبرَكة ومجّانية ولا روح فيها. وكأنّي بها تجعل من الأشخاص دُمىً بلاستيكية، ومن المباني والأحياء قطعاً مبعثَرة من لعبة “ليغو”، ومن الدم المراق صباغاً.
وإذا ما تركنا “الرسّام” وشأنه، فإن ما يستدعي التفكير هنا بالفعل، هو ماهية مبرّرات من يشارك هذه الصور: ألا تكفيه كلُّ الصور الحقيقية التي تنشرها وكالات الأنباء أو تلك التي يُرسلها من جوّاله ابن القطاع عبر وسائل التواصُل المتعدّدة؟ هل يبحث عن تأثير الصورة، عن حقيقتها أم عن ماذا؟ هل نحن مضطرُّون، والحقيقة موجودة ناصعة واضحة، لاختراع هذه الصور، والتي لا تدخل أيضاً، برأينا، في باب الفنّ، فما بالنا في باب الفنّ الملتزم؟
أعمالٌ لا تدخل في باب الفنّ فما بالنا بباب الفنّ الملتزم
لقد تطوّرَت البرامجُ الخاصّة بهذا النوع من الذكاء الاصطناعي وتنوّعَت، كما أصبحَت في متناول الجميع. وهذه الثورة التي حصلت في مجال الرسم، لمن لا يعرف، لا تحتاج إلى فنّان بقدر ما تحتاج إلى المعرفة التقنية والجهاز الفعّال. فما على مستخدمه إلّا إدخال النصّ الذي يصف الصورة المرغوب إنجازُها، وتزويده بصور تتعلّق بالموضوع، ومن ثمّ النقر على زرّ التنفيذ حتى يحصل على النتيجة المرجوَّة خلال ثوانٍ معدودة، وربما كان هناك أكثر من نتيجة أو اقتراح يتناسب مع محتوى النصّ الذي أدخله. أمّا ما تبقّى، وهو الأهمّ، من خيال وفكر، فهذا ما لا نضمن وجوده، على الأقلّ بين “فنّانينا الاصطناعيّين”.
بالطبع لا شيء يمنع أحداً من التجريب ومن التعبير عمّا يجول في خاطره، من باب التعاطُف أو من باب نقل صورة ما يجري إلى أصدقائه أو إلى “الآخر” في محيطه، لكنّ الخطير في الأمر، عدا تلك الأفكار الساذجة والتي قد تضرّ بقضيّتنا أكثر ممّا تنفعها، هو أنّ السوشال ميديا قد بدأت تصنع ذائقتنا بدل المتاحف والغاليريهات الرصينة، فالعين تتدرّب على الغثّ كما تتدرّب على السمين.
* فنّان تشكيلي سوري مقيم في ألمانيا